إن
آخر ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها. فمن كان
مقيماً على طاعة الله عز وجل بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكراً وتسبيحاً
وتهليلاً وعبادة وشهادة.
فهلموا
ننظر كيف كانت ساعة الاحتضار على سلفنا الصالح الذين عاشوا على طاعة الله
وماتوا على ذكر الله، يأملون في فضل الله ويرجون رحمة الله، مع ما كانوا
عليه من الخير والصلاح.
لما رأت فاطمة رضي الله عنها ما برسول الله
من الكرب الشديد الذي يتغشاه عند الموت قالت: واكرب أبتاه، فقال لها
:
((ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)). وهذا
عبد الله بن جحش عندما خرج لمعركة أحد دعا الله عز وجل قائلاً: (يا رب إذا
لقيت العدو فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده فأقاتله فيك، ويقاتلني،
ثم يأخذني ويجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً، قلت يا عبد الله من جدع
أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت.
وبعد المعركة رآه بعض الصحابة مجدوع الأنف والأذن كما دعا.
وطعن جبار بن سًلمي الكلبي عامر بن فهيرة
يوم بئر معونة، فنفذت الطعنة فيه، فصاح عامر قائلا: فزت ورب الكعبة.
وكان بلال بن رباح
يردد حين حضرته الوفاة وشعر بسكرات الموت قائلا: ((غداً نلقى الأحبة: محمداً وصحبه، فتبكي امرأته قائلة: وابلالاه واحزناه فيقول
: وافرحاه.
وعندما خطب رسول الله
في أصحابه حاثاً لهم على الاستشهاد في سبيل الله في معركة بدر قال
:
((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)). فسمع عمير بن الحُمام هذا الفضل العظيم وقال: والله يا رسول الله إني أرجو أن أكون من أهلها. فقال
((فإنك من أهلها)).
فأخرج
عمير ثمرات من جعبته ليأكلها ويتقوى بها، فما كادت تصل إلى فمه حتى رماها
وقال: إنها لحياة طويلة إن أنا حييت حتى آكل تمراتي، فقاتل المشركين حتى
قتل.
وعندما حضرت الوفاة معاذ بن جبل
قال: مرحباً بالموت زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك،
فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار ولا
لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء عند
حِلَقَ الذكر.
ولما
احتضر عمر بن عبد العزيز قال لمن حوله: أخرجوا عني فلا يبق أحد. فخرجوا
فقعدوا على الباب فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا
جان، ثم قال:
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعافية للمتقين، ثم قُبض رحمه الله.
ولما
حضرت آدم بن إياس الوفاة ختم ما تبقى عليه من سور القرآن وهو مسجّى، فلما
انتهى قال: اللهم ارفق بي في هذا المصرع، اللهم كنت أؤملك لهذا اليوم
وأرجوك. ثم قال: لا إله إلا الله وقضى.
ولما حضرت الوفاة أبا الوفاء بن عقيل بكى أهله، فقال لهم: لي خمسون سنة أعبده، فدعوني أتهنّى لمقابلته.
قال أنس بن مالك
: ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن.
أول يوم يجيئك البشير من الله، إما برضاه وإما بسخطه.
واليوم الثاني يوم تعرض فيه على ربك أخذاً كتابك إما بيمينك وإما بشمالك.
وأول ليلة: ليلة تبيت فيها بالقبر.
والليلة الثانية: ليلةٌ صبيحتُها يوم القيامة.
وقال
المزني دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف أصبحت؟ فقال:
أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولسوء
عملي ملاقيا. وعلى الله تعالى وارداً، فلا أدري: روحي تصير إلى الجنة
فأهنيها أو إلى النار فأعزيها. ثم بكى.
ولما احتضر عامر بن عبد الله بكى وقال: لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون.
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت، من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت.
ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم.
يا من الموت موعده، والقبر بيته والثرى فراشه، والدود أنيسه. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله.
وكثير من السلف الصالح مات وهو على طاعة داوم عليها فترة حياته.
فهذا
أبو الحسن النساج لما حضره الموت غشي عليه عند صلاة المغرب، ثم أفاق ودعا
بماء فتوضأ للصلاة ثم صلى ثم تمدد وغمض عينيه وتشهد ومات.
وهذا
ابن أبي مريم الغساني، لم يفطر مع أنه كان في النزع الأخير وظل صائماً
فقال له من حوله: لو جرعت جرعة ماء، فقال بيده: لا، فلما دخل المغرب قال:
أذّن، قالوا: نعم، فقطروا في فمه قطرة ماء، ثم مات.
ولما احتضر عبد الرحمن بن الأسود بكى فقيل له: ما يبكيك.
فقال: أسفاً على الصلاة والصوم، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وهذا أبو حكيم الخبري كان جالساً ينسخ الكتب كعادته.
فوقع القلم من يده وقال: إن كان هذا موتاً، فوالله إنه موت طيب، فمات.
وعن الفضل بن دكين قال: مات مجاهد بن جبر وهو ساجد.